الاثنين، 18 يوليو 2011

سهرة في القاهرة

سهرة في القاهرة... كتاب فرنسي عن قاهرة اليوم

قراءة للحاضر وعودة للماضي.

قاهرة العشرينات بملامحها الارستقراطية 
وقاهرة الوقت الحاضر الأقرب  لفتاة فقدت الأمل في استعادة حريتها تحت وطأة الزحام، البطالة والتطرف

كتبت مي سمير
"سهرة القاهرة" كتاب جديد صدر في فرنسا  للكاتب الفرنسي روبير سوليه الذي حاول أن يرسم صورة للحياة في القاهرة، قبل ثورة 25 يناير،  وتجمع سوليه بمصر علاقة خاصة فقد ولد وعاش بها ولم يعود إلى فرنسا إلا بعد قضاء 18 عاما في مصر. لهذا لعبت مصر دور محوري في العديد من رواياته، وفي كتابه الأخير "سهرة في القاهرة" حاول رسم صورة للحياة في القاهرة من خلال مجموعة من الشخصيات التي يقابلها الصحفي تشارلز وهو مصري هاجرت أسرته بعد ثورة يوليو، ومن خلال سهرة تجمع بين عدد كبير من الشخصيات المصرية، وبين صورة القاهرة في الماضي ومايحدث اليوم تدور أحداث الرواية. الرواية تغوص في أعماق الماضي وتقدم صورة مفصلة للحياة في مصر بالثلاثينات والأربعينات, وما بين جاردن سيتي ومصر الجديدة نتعرف على تفاصيل الحياة الاجتماعية الارستقراطية في تلك الحقبة الزمنية وفي نفس الوقت يصطحبنا الكاتب في زيارة تحليلة لقاهرة الألفية الجديدة. 
في هذه المرة كانت رحلته للقاهرة بهدف القيام بمهمة واضحة، لم يأتي للقاهرة لاسترجاع ذكريات الماضي البعيد، لم يبحث عن مغامرة بين الأثار المصرية القديمة كعادة الفرنسيين الذي يأتون لمصر وفي خيالهم صورة مكتشف الأثار الذي يعثر على المدينة المفقودة في قلب الصحراء، كان تشارلز قادم وهو يعلم أن هذه الزيارة سوف تغير للأبد علاقته بوطنه الأصلي مصر، عزائه الوحيد أنه ليس صاحب فكرة هذه الزيارة فهو قادم بتكليف من أفراد عائلته، عائلة البتريكاني.


عاش تشارلز طفولته في القاهرة ولكن ذكرياته عن حياة عائلته في تلك المدينة يرجع الفضل فيها إلى مذكرات خاله ميشيل التي عثر عليها بعد وفاته عام 1980 في جينف، تلك المذكرات سمحت له أن يعرف تاريخ عائلته بالكامل. جورج بيه البتريكاني الجد هو أساس تلك العائلة، مصري من أصول فرنسية وألبانية  يعمل كوكيل لماركات أجنية ونجح في صنع حياة راقية له ولأسرته. كان البتريكاني الجد حريص على الارتقاء بأسرته وبمكانتهم الإجتماعية ولهذا أصر على بناء قصر للعائلة في حي جاردن سيتي عام 1929، لم تكن إمكانياته المادية تسمح له بمثل هذه الرفاهية ولكنه أصر على تلك المخاطرة فقد كان يريد أن يحجز لنفسه مكانة وسط الطبقة الراقية، وعلى الرغم من أن بيته في شبرا كان كفيل بمنحه ما يريد من واجهة اجتماعية إلا أنه كان يريد المزيد تماما كما كان يريد مزيد من التوسع في أعماله التجارية. مع القصر الجديد بدأ عهد جديد للبتريكاني الذي افتتح مصنع للطرابيش منحه لقب ملك الطرابيش قبل أن يحصل على لقب بيه رسميا . من المؤكد أن عملية الانتقال من شبرا إلى جاردن سيتي كانت مؤلمة لجدته يولندا التي كانت تعشق حياة شبرا وتخشى في نفس الوقت على زوجها من مغامرة مالية غير محسوبة ولكنها في النهاية انتقلت لتعيش في قصر فخم لا يفصله عن النيل سوى مسافة قصيرة وهناك تولت تربية أبنائها الستة اندريه، بول، ميشيل، ألكس، لولا وفيفيان والدة تشارلز.

مر شريط الذكريات سريعا وهو في طريقه من المطار، كان يعلم أن جذوره العميقة في مصر اقتصرت اليوم على قصر جاردن سيتي ودينا زوجة خاله ألكس المقيمة في القصر منذ العديد من السنوات. هو يقيم حاليا في باريس ويعتبر فرنسا هي وطنه أما مصر فهي مجرد مكان يزوره على فترات متباعدة يلتقي فيه بدينا.
دينا هي المرأة الحلم التي لم ينساها أبدا، عشقها طفلا، وداعبت خياله مراهقا  ولايزال جمالها على الرغم سنوات عمرها التي تخطت الستين يثير اعجابه. بالنسبة لتشارلز كانت دينا تمثل جزء كبير من صورة مصر التي عاش بها في الماضي، يتذكرها وهي ترتدي البيكيني البرتقالي اللون  على شاطئ العجمي،جسمها الرشيق الذي تتناثر عليه حبات الرمال البيضاء فتمنحه بريق يزيدها جمال، يتذكر كيف وقع خاله ألكس في غرامها على الرغم من اعتراض جدته التي كانت تراها متحررة بشكل زائد، لكن دينا إمرأة لا تعرف القيود تعشق الحياة وتجيد فنون الاستمتاع بها، كانت قادرة على اجبار كل من يقابلها على الاعجاب بها. تذكر تشارلز كيف كان يعشق زيارته لمنزل جده مع والدته فيفيان التي انتقلت للعيش مع والده سليم يارد في مصر الجديدة.  كان سليم بمثابة ابن لجورج البتريكاني، خليفته الذي يحضره من أجل إدارة أعمال العائلة بعد صدمته في ابنه الأكبر اندريه  الذي فاجئ العائلة بقرار الرهبنة، أما بقية الأبناء فلم يكن هناك أحد بينهم يصلح لإدارة التجارة بول يكره مصر والشرق ويبحث عن فرصة للمغادرة، ميشيل هادئ وحالم يقضي وقته في الكتابة أما ألكس فهو لا يعرف من الحياة سوى السهر.

في زياراته القليلة والمتباعدة لمصر كانت دينا تحرص على استضافته وفي هذه المرة أصرت على أن يقيم معها بالقصر بل أعدت سهرة على شرفه دعت فيها ما يمكن أن نطلق عليه مجتمع عالمي صغير. لطفي سلامة أستاذ الأدب المقارن والعاشق الصامت لدينا الذي لايتردد في تقديم الخدمات لها، جاك لويس شمينار الدبلوماسي الفرنسي الذي يصر على إلقاء شعر لا يفهمه أحد، جوسلن عالم الآثار الفرنسي والعاشق التقليدي للآثار المصرية، نجم الورداني النموذج الجديد لرجل الأعمال المصري وصديق تشارلز المتحرر الذي يعشق السهر ويملك ليل القاهرة، فلا يوجد مكان راقي لا يعرفه ولا يوجد باب يغلق في وجهه ولا توجد إمراة تقاوم إغرائه خاصة مع سيارته البي أم دبيل. على الرغم من تحرر الورداني إلا أن لحياته وجه آخر اكتشفه تشارلز عندما زاره في منزله ليفاجأ أن سهير شقيقته ترتدي النقاب، ولم يتردد تشارلز في إعلان دهشته كيف لبيت تربى فيه رجل مثل الورادني تخرج منه فتاة مثل سهير، التناقض بين الشقيقين هو انعكاس للتناقض في الشارع المصري الذي تتنشر فيه معالم التدين الظاهرى من حجاب ولحية تماما كما تنتشر الفوضى. وتكشف حياة الورداني جانب آخر من التناقض الذي لا يمكن العثور عليه سوى في مصر، فسائق الورداني خريج كلية الحقوق فضل العمل كسائق فهو يكسب أكثر من كل زملائه الذين عملوا بشهادة الحقوق، وفقط في القاهرة يمكن أن تقابل سائق يكسب أكثر من المحامي أو وكيل النيابة.
هذه الصورة المتناقضة للقاهرة تختلف تماما عن الحياة التي يتذكرها عن طفولته في مصر الجديدة  التي أسسها البارون البلجيكي امبان، لقد أسس واحة في قلب الصحراء، واحة تجمع أجزاء العالم في القاهرة، المساجد والكنائس جنبا إلى جنب، البقال اليوناني، محل التصوير الأرماني، المخبز السويسري، الجواهرجي المالطي، حياة يمتزج فيها العالم تماما مثل الإسكندرية، ومن المؤكد أن قاهرة الأمس تختلف تماما عن قاهرة الورداني  كما تختلف سهير عن دينا التي كانت تحرص على قيادة السيارة الشيفورليه المكشوفة وتترك للهواء حرية التلاعب بشعرها بالأربعينات من القرن الماضي.  لقد انتهت هذه الحياة مع رحيل الجد واختيار الأبناء الهجرة خارج مصر بعد قيام الثورة.  لم يبقى في مصر من أعمامه سوى اندريه،أما بول وميشيل فقد فضلا الذهاب إلى جينف، ألكس اختار بيروت، أما بولا فقد ذهبت مع زوجها إلى مونتريال.  في البدابة فضل والد  تشارلز  البقاء في القاهرة ولم يهاجر مع بقية  أشقائه ولكن مع حركة التأميم ومع زيادة الحصار على العائلة كان قرار الهجرة والذهاب إلى لبنان.


رحلة هروب عائلته من مصر لعب بطولتها الضابط حسن صبري، كانت فيفان والدة تشارلز تعرف جيدا حسن صبري فقد تربي في قصرهم بجاردن سيتي عندما كان يأتي مع عمه رشيد السفرجي الذي كان يتولى تربيته بعد وفاة والديه. لقد لجأ رشيد إلى البتريكاني الجد لكي يتوسط لحسن من أجل دخول المدرسة الحربية التي فشل في دخولها أكثر مرة وبالفعل بعد تدخل البتريكاني تمكن حسن من تحقيق حلمه في ارتداء بدلة الضابط، لهذا لم تشعر فيفيان بالتردد وذهبت إليه على أمل أن يساعدها في الحصول على الفيزا والغريب أنها حصلت بالفعل على الفيزا على الرغم من أن الضابط حسن صبري كان يكره العائلة ولم يتردد في التعالي على أفرادها في أكثر مناسبة بعد قيام الثورة. ولفترة طويلة كان تشارلز يسأل نفسه لماذا وافق حسن صبري على منحهم الفيزا، ماذا اعطته والدته في مقابل هذه المساعدة وأسئلة كثيرة دارت في عقله ولكنه لم يعثر على إجابة لها، ولكن المؤكد أن مشاعر كراهية نمت في قلبه تجاه الضابط حسن صبري، وقد ماتت هذه المشاعر عندما قرأ في إحدى الدوريات التي كان يحتفظ بها خاله ميشيل موضوع عن وفاة اللواء حسن صبري أثناء مشاركته في حرب 1973 وبورتريه عن حياته وكيف نجح على الرغم من جذور حياته البسيطة في أن يصبح ضابط بالجيش.
شريط الذكريات الخاصة بحسن صبري توقف فجأة وعاد تشارلز مرة أخرى  لسهرة القاهرة وحاول الاندماج في الأحاديث العديدة ومنها الحديث عن السينما وفيلم أحمد ذكي "أيام السادات" واعجاب الجميع بهذا الممثل الرائع الذي قدم من قبل دور جمال عبد الناصر وقد علق أحد الحاضرين على قدرة أحمد ذكي التمثيلية الفذة التي تجعله قادر على تقديم أي دور حتى دور الملكة حتشبسوت. لم تكتسب الحفلة خصوصية من وجهة نظر تشارلز إلا مع وصول أميرة  الأستاذة الجامعية التي جذبته منذ اللحظة الأولي لدخولها، فتاة مصرية جميلة استكملت تعليمها العالي ونجحت في إجادة اللغة الفرنسية على الرغم من عدم دخولها مدرسة لغات والعاشقة لشارل ديجول الزعيم الفرنسي وبسببه أصرت على تعلم الفرنسية. نجحت أميرة في جذب تشارلز ولأول مرة منذ فترة طويلة  يخوض حوار طويلا مع سيدة مصرية غير دينا. أثناء اندماجه في الحفل واستمتاعه برفيقته طلبت منه دينا أن يأتي لها بشالها الأبيض، لم يكن تشارلز يعلم أن تلبيته لهذا الطلب يخبأ له مفاجأة من العيار الثقيل، فقد ذهب للبحث عن الشال في غرفة دينا وفي تلك الأثناء عثر على صورة أصابته بصدمة.
لقد جمعت الصورة بين دينا ووالده سليم يارد، صورة في ربيع1973 أمام فندق بارومانا في لبنان، هذا الفندق هو نفسه الذي دعى فيه خاله ألكس العائلة بأكلمها، ولكن الدعوة كانت في الشتاء، بينما الصورة كانت في الربيع، الزهور التي تتوسط سليم ودينا تؤكد أن الصورة لم تلتقط في الشتاء، ترى هل جمع الحب بين دينا وسليم، هل خانت دينا خاله ألكس مع والده، هل ملت مغامراته التجارية التي تنتهي عادة بالفشل مثل فندق الحيوانات الأليفة أو الكازينو ووقعت في غرام سليم الرجل الجاد والعاشق للعمل، قبل أن يعثر على إجابة لتساؤلاته العديدة فوجئ تشارلز بقدوم لطفي سلامة، لقد أرسلته دينا لكي يساعد تشارلز في العثور على الشال.
لكن الصدمة الحقيقية التي شهدتها السهرة لم تكن في تلك الصورة ولكن في فقدان دينا للوعي أثناء الرقص، لقد أعتقد تشارلز انها ماتت ولكنها سرعان ما استعادت وعيها من جديد وطلبت كأس ويسكي، هكذا هي دينا قادرة على إثارة الدهشة. استمرت الحفلة إلى الساعات الأولى من النهار كالعادة.
بعد انتهاء الحفلة أدرك تشارلز أن الوقت قد حان لتنفيذ المهمة التي أتى من أجلها لمصر، فقد اجتمعت عائلته في جينف كما تفعل عادة كل عدة سنوات واتفق الجميع على بيع قصر جاردن سيتي، وتطوع تشارلز بمهمة إعلام دينا بهذا القرار، كان يعلم أن المهمة صعبة ولكن أحفاد ملك الطرابيش يريدوا قطع الخيط الوحيد الباقي في علاقتهم بمصر، والأدق يريدون بيعه.
المثير أن في صباح اليوم التالي لهذه السهرة التي تعرف من خلالها تشارلز على شخصيات عكست شكل الحياة في مصر سواء نجم الورداني  رجل الأعمال ماركة الألفية الجديدة وما تحمله عائلته من تناقضات أصبحت أمر واقع في مصر، أوأميرة النموذج الجديد للمرأة المتحررة في مصر، أو لطفي سلامة الأستاذ الجامعي الذي يبدو أنه يشاهد العالم من خلف مكتبه الجامعي، في هذا الصباح وقبل أن يفاتح تشارلز دينا في السر وراء قدومه فوجئ بها تتحدث عن بيع القصر، لقد فهمت دينا سر زيارته وأدركت أن أحفاد البتريكاني الذي انتشروا في مختلف أنحاء العالم  يريدون بيع القصر، الأكثر إثارة أن دينا كان لديها المشترى الذي لم يكن سوى سوى حسن صبري، وعندما أكد لها تشارلز أنه قرأ خبر وفاته في الجرائد أكدت له دينا أن الأمر مجرد تشابه أسماء، فحسن صبري لايزال على قيد حياة بل أن تشارلز قابل حفيدته التي لم تكن سوى أميرة الفتاة التي أثارت اعجابه. عرض حسن صبري على دينا شراء القصر من أجل جمعية ثورة 19 والتي ستتولى دفع ثمن القصر.
دينا كانت تستعد هي الأخرى لمغادرة مصر وزيارة أقاربها  الذين انتشروا في مختلف أنحاء العالم، فهي تشعر بالحنين لأهلها وتشعر أنها وعلى الرغم من عدم مغادرتها لوطنها تعيش في منفى. أما تشارلز فقد قرر هو الآخر مغادرة القاهرة، لم يعد يشعر أنه ينتمي لهذا المكان، ففي كل مرة يأتي إلى مصر يراوده أمل العثور على الجنة المفقودة، يحلم بحياة شبيهة للحياة التي عاشها طفلا، يحلم بالنيل الساحر والصحراء الخلابة والأخلاق الجميلة والضحك الذي لا ينتهي، ولكن يبدو أن العيب ليس فقط في القاهرة، هو نفسه لم يعد هذا الطفل الصغير الذي يرى دائما الصورة خالية من العيوب.
مي سمير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق