الطريق إلى ومن ميدان التحرير(ورقة بحثية حول مستقبل مصر بعد الثورة)
رسم طارق مسعود أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفاد والباحث في معهد كارنيجي الدولي، مستقبل مصر بعد الثورة في ورقة بحثية نشرتها دورية "جريدة الديمقراطية" الأمريكية الشهيرة تحت عنوان الطريق إلى ومن ميدان التحرير. تحمل السطور التالية عرض لجزء من هذه الورقة البحثية,
وتحت عنوان سراب السلطوية القابلة للاحتمال، كتب مسعود أن عدم القدرة على رؤية الثورة الوشيكة يولد مع الطبيعة البشرية . نحن نتوقع أن الأشياء التي حدثت في الماضي سوف تحدث في المستقبل. تقريبا كل صحفي أجنبي زار مصر في السنوات القليلة الماضية، لاحظ العلامات التي تشير لسقوط النظام الوشيك. ولكن على الرغم من وضوح تلك العلامات إلا أن أغلب المصريين بما في ذلك المثقفين استبعدوا إمكانية حدوثه. أن فرضية إمكانية سقوط النظام تبدأ عندما تشهد النخبة الحاكمة تمزق، ولكن نظام مبارك نجح في استخدام آليات تساعده على إدارة تلك التمزقات أو تفاديها من البداية. لم يكن من الصعب التعرف على تلك الآليات، حدد الباحثين اثنين من المؤسسات السياسية المزيفة،ساهمت تلك المؤسسات في إطالة عمر نظام مبارك، الحزب الديمقراطي الحاكم و مجلس الشعب. هذه المؤسسات كان يفترض أن تلعب دور في منع الصراعات بين النخبة من خلال الحرص على تسوية المنازعات بين أنصار النظام وعن طريق توزيع ثمار الفساد بين هؤلاء المؤيدين للنظام دون الحاجة للتحديد الفائز والخاسر في تلك الصراعات. لهذا تحول الحزب الوطني الحاكم الذي أسسه أنور السادات في عام 1978 إلى مجموعة من النخب الاقتصادية والسياسية مع رجال أعمال وأكاديمين طموحين وأركان النظام المخضرمين، الكل مجتمع تحت خيمة مبارك للمصالح المشتركة. من الممكن تماما، بل من المرجح أن بقاء نظام مبارك طوال هذه المدة ارتبط بالضمان والحفاظ على ولاء تلك النخبة. ولكن أسس مؤسسات هذا النظام السلطوي أصابها الضعف مقارنة بالماضي، وبمجرد قيام المظاهرات انهار الحزب الوطني أما المجلس الشعب فكان غير مجدي. وفي مواجهة تزايد الاضطرابات الشعبية فقد النظام قدرته على التماسك. على ناحية الأخرى فقد مبارك دعم الجيش ليسقط النظام في مصر.
العودة للثكنات
بطبيعة الحال فمن السابق لأوانه القول بأن النظام الاستبدادي قد سقط في مصر، فعلى الرغم من قيام الثورة فالحقيقة المؤكدة أن الجيش لايزال يحكم مصر، وللقول بأن مصر شهدت ثورة فهذا يتوقف على صدق المجلس الأعلى للقوات المسلحة بشأن أن دوره يقتصر على إدارة الفترة الانتقالية،وهناك أسباب تدفعنا للشك. السبب الأول سياسي، فالجيش يحظى بشكل من أشكال الحصانة السياسية فعلى سبيل المثال ميزانية الجيش تعد سر من أسرار الدولة ولا توجد مراقبة برلمانية، وقد يكون دعم الجيش للديمقراطية يعني وضع نهاية لهذا الوضع الخاص. وفي الواقع فأن اللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع لشئون البرلمان طلب من أي دستور مصري جديد حماية الجيش من نزوات المسؤولين المنتخبين وأعلن أن الشؤون العسكرية يجب أن تبقى خارج الحدود في أي برلمان جديد. السبب الثاني اقتصادي فالجيش شريك رئيسي في العديد من الأنشطة الاقتصادية بدءا من المواد الغذائية لصناعة البتروكيماويات للوازم المطبخ. ورصد المحللون إلى أن نسبة الجيش من الأنشطة الاقتصادية في مصر تتراوح بين 5 إلى 40%. تجدر الإشارة إلى أنه في منتصف عام 2010 ،أعلنت وزارة الإنتاج الحربي أن عائدات انتاج مصانعها وصل في العام المالي السابق إلى 4.3 مليار جنيه مصري. وأيا كان حجم النشاط الاقتصادي للجيش فمن المؤكد أن الإدارة العسكرية للبلاد ستكون حريصة على حماية هذا النشاط. السبب الثالث له علاقة بالجغرافيا السياسية، فالجيش يقدر علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية والسلام مع إسرائيل، وهي أمور لا تحظي برضا أغلب المطالبين بالديمقراطية. على الناحية الأخرى يبدو أن الجيش ليس لديه صبر كبير على إدارة شئون البلاد يوم بيوم. فتأمين الشوارع، حماية الأقليات الدينية وتحديد السياسة الاقتصادية ليست من الأمور التي تناسب رجال الجيش. بدلا من ذلك فالجيش يفضل أن يحكم ولا يدير شئون البلاد، وبهذا يحافظ على الامتيازات الاقتصادية ويتجنب المراقبة الحكومية وفي نفس الوقت التحكم في السياسية المصرية الخارجية والدفاع. هذا الأمر يحتاج عملية توازن شديدة الحساسية وقد فشلت التجارب المشابهة في باكستان والسودان في تحقيق هذا التوازن.يأمل المتفائلون في أن مصر قد تطبق النموذج التركي، ولكن الأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض.
صياغة الجمهورية الجديدة
في تلك الأثناء يسعى المجلس العسكري لهندسة الشئون المصرية.ولكن هذه الصياغة لدولة ديمقراطية تقترب من الفشل بعد وقوع أغلب القوى المؤيدة للديمقراطية في فخ صراع ناتج عن أول قرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو ايقاف العمل بدستور 1971. من وجهة نظر الجيش فهذه الخطوة كانت ضرورية ، فالمتظاهرين يريدون التغيير، وإذا ظل العمل بالدستور القديم فهذا كان يعني أن رئيس مجلس الشعب كان سيتولى إدارة شئون البلاد لحين إقامة انتخابات رئاسية في أبريل وهذا يعني استمرار سيطرة الحزب الوطني الحاكم على مجلس الشعب وهذا يعني عدم الاستجابة لرغبة الشعب في التغيير. كما كان هناك مصلحة ذاتية أيضا لهذه الخطوة حيث أن دستور 1971 لا يتضمن ما يتعلق بالحكم العسكري. لكن الايقاف العمل بالدستور اثار مخاوف بأن الحيش يسعى لتسوية على المدى الطويل. وتم الإعلان عن لجنة مهمتها تعديل الدستور القائم وذلك لتسهيل نقل السريع للسلطة إلى الحكومة المدنية المنتخبة. أصدرت اللجنة مجموعة من التعديلات التي تعزز الاشراف القضائي على الانتخابات ، وبفترتين رئاسيتين فقط ، وفتحت المنافسة لرئاسة الجمهورية ، و القضاء على بعض صلاحيات الرئاسية. أهم تلك التعديلات كان المتعلق بأن البرلمان المنتخب يقوم باختيار 100 عضو من الجمعية التأسيسية التي سيكون لها ستة أشهر أخرى لصياغة دستور جديد وضعه للتصويت الشعبي. هذه التعديلات تم الاستفتاء عليها في 19 مارس وتمت الموافقة عليه بنسبة 77%. ولكن هذه التعديلات ساهمت في توتر الأجواء السياسسية فالإخوان رحبوا بالتعديلات التي من وجهت نظرهم قدمت لهم طريق واضح للخروج من الحكم العسكري وتأسيس برلمان جديد ودستور، ولكن القوى السياسية الأخرى لم توافق على نتيجة الاستفتاء ونادت أغلب الأسماء المرشحة لخوض انتخابات الرئاسة بالدستور قبل الانتخابات. واستمرت القوى الليبرالية بالمناداة بالدستور أولا.
التحدي الإسلامي
إذا لم يكن بالإمكان وضع الدستور قبل الانتخابات البرلمانية فأن الاتفاق على المبادئ الدستورية بشكل عام قد يكون الحل الأفضل للخروج من تلك الأزمة. ومع الدعوة لهذا الوفاق الوطني بشأن المبادئ الدستورية في محاولة لتهدئة الليبراليين.، غضب الإخوان المسلمين الذين اعتبروا هذه الدعوة محاولة من الليبراليين لاغتصاب سلطة البرلمان.
والحقيقة أن الإخوان المسلمين يعتبروا القوى السياسية الأكثر تنظيما في المشهد السياسي المصري وتخشى التيارات الليبرالية في مصر من سيطرة الاسلاميين على الانتخابات البرلمانية. من جانبهم حاول الإخوان المسلمين تهدئة تلك المخاوف بالإشارة إلى أنهم لن يترشحوا إلى على عدد معين من المقاعد، ولكن مع ملاحظة أن عدد المقاعد أخذ يزداد بمرور الوقت. بعض الإحصائيات أشارت لحظوظ الإخوان في الانتخابات البرلمانية، ومنها استفتاء عبر التليفون أجراه مركز "بيو للأبحاث" شارك فيه ألف مواطن مصري وخرجت النتائج بأن 75% يفضلون الإخوان، و17 % طالبوا بتولي الإخوان الحكومة المصرية القادمة . هذه الترجبحات لانتصارات الإخوان تعتمد على تاريخ الإخوان والمقاعد التي نجحوا في الحصول عليها بالانتخابات البرلمانية 2005. ولكن المؤكد أن التمثيل البرلماني لن يقتصر على الإخوان فقط وسوف بضم البرلمان أحزاب وجماعات غير معلوم مدى التزامها بالديمقراطية. لقد حدث نوع من الانتشار لتيارات الإسلامية واللاعبين السياسين في المشهد السياسي بعد رحيل مبارك، من الإسلاميين المعتدلين إلى حزب الوسط، مرورا بحزب النهضة بقيادة عبد المنعم أبو الفتوح، دون أن ننسى الجماعات السلفية.
أن تيارات الليبرالية لديها الكثير لكي تقلق منه ولا يتوقف الأمر على الإخوان المسلمين.كم ستحصل الكتلة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية القادمة، 77% وافقوا على التعديلات الدستورية، هذه النسبة تعكس قوة التيارات الإسلامية التي دعمت الموافقة على تلك التعديلات، ولكن هذا لا يعني أن كل من صوت بالموافقة على التعديلات الدستورية ينتمي للتيار الإسلامي. لهذا ففي النهاية لا يمكن لنا أن نقدر حجم الانتصار الذي ستحققه التيارات الإسلامية في الانتخابات البرلمانية ولكن من المؤكد أن هذه التيارات الإسلامية سوف تبذل أقصى جهد لاقناع المصريين بأن الانتخابات البرلمانية القادمة تتعلق بمن سيضع الدستور وبالتالي تحديد إذا ما كانت مصر سوف تحافظ على هويتها الإسلامية أو لا.
الخروج مع القديم
يشير مسعود إلى أن قوانين الثورات تشير إلى ضرورة هدم النظام القديم، هذا يفسر لنا كل المظاهرات التي خرجت في أعقاب تنحي مبارك والتي طالبت بإقالة حكومة شفيق، تطهير أمن الدولة، محاكمة مبارك وعائلته، اليوم هناك الكثير من رجال ووزراء مبارك خلف القضبان تتم محاكمتهم على الجرائم التي ارتكبوها، أن هذه المحاكمات ليست من أجل ارضاء الجماهير الغاضبة ولكن من أجل تأسيس مبدأ محاسبة وعقاب كبار رجال الدولة.
ولكن مع اتساع نطاق شبكة العدالة تزداد التكاليف السياسية المحتملة. على سبيل المثال قادة الجيش قد يشعرون بالقلق من أن التخلي عن إدارة شئون البلاد قد يعرضهم لنفس مصير مبارك. كذلك رجال الأعمال قد يشعرون بالخطر، وكما أشار آدم برجيفورسكي أستاذ العلوم السياسية الأمريكي فأن من أكبر التحديات التي تواجه عملية الانتقال الديمقراطي هو مواجهة القوى السياسية التي تتعرض مصالحها للخطر في ظل النظام الديمقراطي. شهدت مصر العديد من المحاولات التخريبة لعملية الانتقال الديمقراطي، ففي الشهور التي تلت الثورة رأينا عدة مواجهات بين المسلمين والمسيحين وغيرها من محاولات لزعزعة الأمن، في ظل غياب جهاز الشرطة الذي كان اليد الحديدي للنظام السابق والحذاء الذي يضعه النظام على رقاب المواطنين.
ويبدو أن تحقيق الديمقراطية في مصر قد يستدعي السماح لتلك القوة التي كانت مهمتها حماية النظام القديم تولي مهمة حماية النظام الجديد. وبالطبع فالمصريين فقط هم من يملكون قرار إذا كان من الأفضل المتابعة من أجل تحقيق العدالة أو العمل على اشعار كل اللاعبين بما في ذلك عناصرالنظام القديم أن لديهم مكان في النظام الجديد.
ديمقراطية دائمة
ليس فقط العناصر من النظام القديم الذي يجب أن ترى فوائد في النظام الجديد ، كذلك المصريين العاديين يجب أن يشعروا أن لهم مصلحة في تحقيق الديمقراطية.
في عام 1954 عندما خرجت المظاهرات العمالية لتأييد جمال عبد الناصر في مواجهة محمد نجيب الذي كان يميل لتطبيق نظام ديمقراطي، خرج العمال يرددون فالتسقط الديمقراطية، لم يكن العمال أغبياء ولكنهم تحركوا بدافع من خبرتهم مع النظام الديمقراطي في عصر فاروق والذي نتج عنه مزيد من الفقر والبطالة وتدني الأجور. فد نعتقد أن الديمقراطية تتمتع بدعم غير قابل للاهتزاز في مختلف أنحاء العالم، ولكن الاختبار الحقيقي للديمقراطية هو معدة خاوية. والمشكلة أن البطون الخاوية في مصر تزداد مع بطء النمو الاقتصادي ليصل إلى 1%، انخفاط 25% من احتياطي النقد الأجنبي، وتوقف تام للاستثمارات الأجنبية وخسارة 40 مليون دولار يوميا بسبب توقف السياحة...
في ظل هذه الصورة القاتمة هناك نوعان من الإغراءات قد تخضع لها أي حكومة مصرية منتخبة.الأول التعامل مع البطالة بمزيد من التعينات الحكومية، الثاني هو العودة للطراز القديم لعهد عبد الناصر من المشاريع القومية الكبيرة والتي تأتي في الاتجاه المعاكس لتدابير الخصخصة التي طبقها مبارك وهذا يعني إعادة تشكيل السياسة في مصر على قدم المساواة مع إعادة صياغة درامية لاقتصادها.
ولكن كلا الاتجاهين من الصعب أن يقدما حلول لمشاكل مصر الاقتصادية. توسيع القطاع العام قد يكون حل لمواجهة البطالة ولكن عواقبه من الصعب تحملها. أما المشاريع القومية الكبرى قد تحفز الاقتصاد على المدى القصير ولكن قد يكون لها عواقب كبير مثل تبديد مصادر الدولة. ويبقى الإشارة أن نجاح الديمقراطية في مصر مرهون بالنجاح الاقتصادي.
ولكن كما فشل الخبراء في توقع حدوث ثورة مصرية، سوف يفشلوا أيضا في توقع ما سيحدث بعد هذه الثورة. لقد أثبت المصريون قدرتهم على إرباك توقعات الخبراء والمحللين. الواضح أن الطريق الذي ستسير فيه مصر ستحاول أغلب الدول العربية أن تسير فيه. مصر هي المركز الثقافي والفكري للعالم العربي، ورهانات التحول المصري بعد الثورة مرتفعة.
إذا تحولت مصر لدولة ديمقراطية فاعلة يمكن للمرء تخيل أن كل انتخابات ستكون نقطة محورية لاحتجاجات جديدة ي سوريا أو المملكة العربية السعودية ، مع الشعب يطالب بحقه في تطبيق الديمقراطية كما هو الوضع في مصر. لكن إذا تحولت مصر إلى الفوضى والتطرف الإسلامي أو الانهيار الاقتصادي فأن جيرانها سوف يعتبرون أنفسهم محظوظين للبقاء في ظل نظام مستقر يحكمه رجل قوي.
مي سمير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق